التباس المفاهيم في سياق الصراع العربي الإسرائيلي
عملية السلام هي محاولة التوصل إلى تسوية أو حل لبعض جوانب الصراع بين العرب وإسرائيل. وقد بدأت هذه العملية بعد عدوان إسرائيل عام 1967 بقرار مجلس الأمن رقم 242 الذي وضع مبادئ أساسية يتم على أساسها التوصل إلى هذه التسوية.
ثم تواترت النصوص الهادفة إلى تحقيق هذه التسوية أو ما يسمى بمرجعيات عملية السلام من جانب مجلس الأمن والولايات المتحدة، ومن الجانب العربي الذي قدم مبادرتين للسلام إحداهما في قمة فاس العربية عام 1982 بناء على مبادرة ملك السعودية فهد عندما كان وليا للعهد، والأخرى في قمة بيروت العربية عام 2002 التي قدمها خلفه الملك عبد الله، عندما كان أيضا وليا للعهد، وهما تحديد لرؤية العالم العربي لشروط السلام مع إسرائيل.
ولا ندري على وجه اليقين العلاقة بين هاتين المبادرتين وهجوم إسرائيل على بيروت عام 1982 وعلى جنين عام 2002. أما إسرائيل فإنها قدمت هي الأخرى عددا من المبادرات. والفارق بين المبادرات الإسرائيلية والعربية هو أن العرب يريدون إنهاء جوانب النزاع بطريقة تعيد الحقوق إلى أصحابها، مع كامل علمهم بأن إسرائيل زرعت في فلسطين بغير سند وأنها قامت على حساب الفلسطينيين، ولكن العرب يدركون أيضا أن إسرائيل هي التجسيد لمشروع صهيوني واسع يستهدف المنطقة العربية كلها ولكنه ينفذ بالتدريج وحسب الأحوال والفرص.
وجوهر عملية السلام هو التفاوض بين الأطراف المتنازعة على أساس هذه المرجعيات، ولكن إسرائيل تنظر إلى هذه العملية على أنها مناسبة لتطويع العرب وكسر عزلتها وتطبيع وجودها في المنطقة وكسر المحظورات النفسية التي تقف عند العرب حائلا دون القبول بوجودها والغضب لعدوانها وتوسعها.
والحق أن العرب قد ظنوا ولو للحظات أن إسرائيل دولة عادية وأنه يمكن التسوية معها على أن تظل في حدود معينة، بل ويمكن التعاون معها في المستقبل، ولكن صدم العرب عندما عادوا بعد أربعين عاما من عملية السلام بحصاد الهشيم، بينما اعتبرت إسرائيل أن عملية السلام هي البديل عن السلام للعرب، لأنها حققت لإسرائيل التوسع عن طريق الإبادة والقهر ثم السعي إلى تفتيت الأوطان العربية وخدمة المخططات الاستعمارية القاسية في المنطقة.
ونقطة الخلاف في الفهم بين إسرائيل والعرب هي أن إسرائيل ترى أن الصراع مع العرب لا ينتهي وأن عملية السلام لا تمنع استخدام كل أدوات القوة بما فيها القوة العسكرية لتحقيق أهدافها، بينما فهم العرب أن مجرد وجود المرجعية ومسرح عملية السلام بصرف النظر عن الممثلين أو اللاعبين كافية وتدفعهم إلى إسقاط احتمالات الصراع بشكله المسلح، واعتقدوا أنهم ودعوا عصر الصراع المسلح الجماعي مع إسرائيل، مع التغاضي عن العمليات الجراحية العسكرية التي تستخدمها إسرائيل في تنفيذ خطتها، بما في ذلك عمليات الاغتيال وتصفيات الشخصيات المدنية والسياسية والعسكرية، بل والفكرية كلما كان وجود هذه الشخصيات سببا في إيقاظ الوعي العربي أو مقاومة المخطط الصهيوني.
وإذا كانت مبادرات السلام لا تزال قائمة فإن المشكلة ليست في إعادة مسرح عملية السلام، ولكن المشكلة أن عملية السلام التي تقوم من الجانب العربي على التفاوض تختلف عن العملية التي تأتيها إسرائيل ومعها أوراق القوة وأهمها القهر العسكري، والتفويض السياسي من سكان إسرائيل، والدعم الأميركي اللامحدود، والأهم من ذلك القصد المعلن، وهو أن أي عملية للسلام يجب أن تحقق خطة إسرائيل وحدها، بحيث تكون العملية أداة لإسباغ الشرعية على مخطط إسرائيل.
وهذا ما حدث بالفعل، حيث تراجعت الإرادة الجماعية العربية، والرؤية العربية الشاملة لإدارة "صراع السلام" مع إسرائيل وتكفلت واشنطن بالضغط على الجميع حتى لا تتبلور هذه الرؤية فيضيع الأقصى وتهود القدس والضفة ونحن غارقون في جدل حول إصلاح الجامعة العربية وكيفية تحقيق مصالحة مستحيلة بين فتح وحماس، وهي مستحيلة لأن الشقاق هو أثر من آثار المخطط الإسرائيلي، وأن المصالحة تتحقق تلقائيا لو توفرت إرادة عربية شاملة للمواجهة الشاملة لعزل إسرائيل في المنطقة.
ولذلك فإن أخطر ما حققه استمرار "عملية السلام" لمدة أربعين عاما هو أن إسرائيل ورموزها صاروا مألوفين في الأذن والعين والمدركات العربية ولم نعد نفر منهم كما يفر السليم من الأجرب.
والخلاصة أن مبادرة السلام العربية تظل إعلانا عن موقف العرب من شروط السلام بقطع النظر عن وجود عملية للسلام، أو حتى لو انفجرت المنطقة بحرب شاملة، فلا محل للجدل حول مصير هذه المبادرة.
فلا يمثل سحبها كسبا للعرب أو خسارة لإسرائيل، كما لا يمثل بقاؤها وعدم المساس بها انكسارا عربيا أو عجزا عن تقديم بديل يصوره البعض على أنه الأسوأ عربيا وهو المواجهة العسكرية، وهذا فهم خاطئ يوظف خصيصا من جانب بعض النظم العربية لإثارة الفزع عند شعوبها خاصة في مصر عندما تهدد الحكومة المطالبين بإلغاء معاهدة السلام بأن ذلك يعنى الحرب مع إسرائيل، وهذا خطر لا نتحمله ولا يريده الشعب ويرضى بسببه بكل شيء. فصارت الحرب مع إسرائيل هي أكبر تهديد تلقيه الحكومة في وجه الشعب، كما صارت تبرر كل إهدار لأي شيء أو تنازل لإسرائيل بهذه المعاهدة.
والطريف أنه نشأ اتجاه في العالم العربي قائم على فهم خاطئ مفاده إجراء التقابل بين المقاومة والسلام وكأن المقاومة هي نقيض السلام. وقد تكرس هذا الاتجاه بمعنى محدد في السياق الفلسطيني والملاحاة بين فتح وحماس وأنشأ تقابلا حادا بين المقاومة التي يرفضها أبو مازن والسلام ويقصد المفاوضات.
ولذلك التبست على البعض العلاقة بين السلام والمفاوضات وبين السلام والحرب، أما العلاقة بين السلام والمفاوضات فهي أن السلام نتيجة أما المفاوضات فهي أداة، ويصح أن تكون العلاقات حربية ومع ذلك فإن السبيل إلى تسويتها أو وقفها هو المفاوضات، بين العسكريين لإبرام اتفاق الهدنة، أو بين السياسيين لإبرام التسوية السياسية.
أما علاقة الحرب بالسلام والحرب بالصراع فهي تحتاج إلى مزيد من الإيضاح. ذلك أنه يفترض أن علاقات الدول تنقسم إلى قسمين: صراع وتعاون، ولكل وسائله وأشكاله، ولذلك تندرج الحرب في قائمة الصراع بالمعنى العسكري أي باستخدام القوة العسكرية، وكلها في النهاية يجب أن تؤدي إلى السلام. ولكن السلام لا ينهي الصراع، فالصراع بيننا وبين إسرائيل له طابع إستراتيجي لا تنهيه اتفاقات السلام.
وتجب الإشارة إلى أنه في سياق الصراع مع إسرائيل لا يجوز الحديث عن السلام العربي الإسرائيلي وإنما يكون الحديث عن التسوية مع إسرائيل، ولكن الصراع يستمر.
هكذا فهمت إسرائيل السلام مع العرب على أنه تجزئة الساحات العربية، فهي في سلام مع كل الدول العربية ما عدا المقاومة في لبنان وغزة، سواء كان السلام واقعيا أم تعاقديا، في هذا السياق يقصد بالسلام انعدام مظاهر الصراع خاصة العسكري.
أما علاقة إسرائيل بالمقاومة فهي ليست علاقة عسكرية وكفى ولكنها علاقة إستراتيجية، لأن المقاومة هي أكبر تهديد للمشروع الصهيوني، ولهذا السبب فإن إسرائيل سممت البيئة العربية وحرضتها على المقاومة وجففت مصادر دعمها المادي والمعنوي بل والأخلاقي، بحيث تخشى الدول العربية أن تساعد المقاومة فتتعرض لعقاب أميركا وإسرائيل.
وفضلا عن ذلك، تحاول إسرائيل أن تطمس المقاومة وتضرب المصدر الأساسي لدعمها، وهو إيران، تحت ستار تهديد إيران النووي، ولكن الحقيقة هي أنه لو كفت إيران عن دعم المقاومة ضد إسرائيل في فلسطين ولبنان فلا مشكلة لإسرائيل مع إيران، لأن إسرائيل تنظر إلى الدعم الإيراني للمقاومة العربية على أنه مظهر من مظاهر قوة المشروع الإيراني وصدامه مع المشروع الصهيوني مباشرة.
هكذا تمكنت واشنطن وإسرائيل من تكريس العداء لإيران في الصف العربي، وأشاعت الخوف من برنامجها النووي في نفوس العرب، كما أضافت إلى بعض العرب مقولة أن إيران تهيمن على الساحة الفلسطينية من خلال حماس وعلى الساحة اللبنانية من خلال حزب الله.
فبدا وكأن العرب وإسرائيل في خندق واحد ضد إيران مما أضعف فكرة المواجهة العربية لإسرائيل بسبب فلسطين. ورغم أنه لو قدر انتهاء قدرة إيران أو رغبتها في مساندة هذه المقاومة لأي سبب، فإن العرب سوف يقعون في صراع رسمي مباشر ضد المشروع الصهيوني الذي يتمدد على الأرض بشكل منهجي.
الخلاصة هي أن الصراع مع إسرائيل له طابع خاص، لأن المشروع الصهيوني يستهدف الوجود العربي نفسه وليس مجرد الهيمنة كما هو حال المشروعات الاستعمارية. وهو مشروع أخطر من الحملات الصليبية رغم انشغال المسلمين وأوروبا بها طيلة قرون استغرقت معظم العصور الوسطى.
محطات السلام الوهمية التي عاشتها المنطقة العربية كانت حصيلتها لصالح إسرائيل، بينما خسر العرب أرضهم وتعرضوا للتمزق والتفتيت، ولذلك خير للعرب أن يواجهوا المشروع بدلا من أن يدفعوا الثمن مضاعفا في ظل سلام يظل إسرائيل وحدها.
أما عملية السلام فهي أداة التواصل بين الفرقاء، وهي تعكس في نتائجها قدرات كل طرف على استخدام أوراقه المتاحة. وتظل عملية السلام قائمة مهما تخللها من حروب وضغوط. عملية السلام أداة والمفاوضات وسيلتها والصراع هو مناخها الأوسع، ومع إسرائيل لا مفر من إدارة الصراع بشكل يعكس الإدراك السليم للمشروع الصهيوني، لعل ذلك يرغم المشروع على التراجع أو إعادة التحول إذا صادف جسدا عربيا لا يسهل امتصاصه وضياع هويته أو قهره والتغلغل فيه وتشجيع الحالة السرطانية التي يعانيها هذا الجسد في هذه المرحلة بعد أن فقد البوصلة وهي مصر.
ولذلك ليس صحيحا أن عملية السلام قد انتهت، وأن اللجوء إلى أجهزة الأمم المتحدة هو البديل، بل إن هذا اللجوء سببه إشراك هذه الأجهزة مع العرب والاستنجاد بها لعلها توقف الهجمة الإسرائيلية. العملية قائمة والمطلوب تحسين أوراق اللعب العربية بكل الوسائل ليس فقط إزاء إسرائيل وإنما إزاء واشنطن أيضا.